عن تجربة الفنان وسام الحداد في بينالي آندنة العالمي لفن الخزف- بلجيكا 2012 استعارات فـتنــــة الدائـــــرة!

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
13/05/2012 06:00 AM
GMT



إن الكتابة والخط أرادا التأكيد على الإستقلالية الذاتية لكل منهما في مجال التنفيذ، لذا وجدنا في الحرف العربي وجمالياته الكثير من الرؤيا الدائرية والإنسياب القوسي والترديد الموسيقي، لأن الحياة دائرة عظيمة ذات محيط لامرئي، مركزها الإنسان- والقمروالشمس والكواكب والمجال البصري وحدقات العيون وقنوات السمع وكريات الدم و نويات الحجيرات وقطرات المطروتلألؤ المياه،الدواليب، العجلات، أقواس النصر،أقراص الأسبرين،النواعير،...كلها دوائر في الحيز الموضوعي الملموس لعالمنا.
 
وللزمن ترديداته: تتالي الليل والنهار،مدورة الحياة والموت،نبضات القلب، والنـَفـَـس؛الشهيق والزفير،هذا المدى كله وأبعد يشتق جوهرشكله من دوائر تدورفي الحيز الوجودي والزمني والمجازي،إنها ليست استعارات مقطوعة عن سياقها،لذا فهي تنبض بموسيقى الحياة والوجود والمعنى، فالدائرة هي النفسُ البشرية، والحياة محبوسة في جماجم تعيش إيقاعات العاطفة وتنمو بمعطيات الحواس. في مشهد أخاذ، تتكامل مدورة الفتنة بين قوس القبة ونظيره الإنعكاسي على مسطح الإغمار المائي، تخيلوا الأمر: دائرة،حيث جعل المعماري قبة المسجد على شكل نصف دائرة تتصل بالأرض،بل جعل المسجد كله محض قبة تستقر قاعدتها على حافة خط أفق الأرض، وفتح في الفضاء المائي أمامها محض إغمارعلى شكل بحيرة،فرسمت القبة لنفسها نصف دائرة كاملة على مسطح الماء لتلتحم بنصفها السفلي الذي هو صورتها منعكسة! هذا النصف السفلي هو محض وهم وإنعكاس! لكن نصفها العلوي حقيقة صلد ة من الكونكريت. ماذا حقق المعماري بمسجد جامعة بغداد في الجادرية حين وصلت به المخيلة إلى حيز التنفيذ الجميل هذا؟ إنه حقق فلسفة: "الأرض مسجدي! " اعطى للمتلقي جماعا ًفي المرئي؛ بين الواقعي والمتخيل، بين المادي والروحي، كأنه يعلمنا بأن الأشياء لا تكمن في المرئي والمسموع حسب ، بل فيما نجعله شبيه الواقع وخدنه! قبة نصفها من اسمنت ونصفها من ماء!
 
تلك هي فتنة الدائرة!
والقباب هي شكل تلك الفتنة، بكامل مدورتها الشرقية وبريق سطوحها، بخاصة تلك التي يلمع لون"التركواز"مشعا ًمن مدورة سطوحها المنحنية،أويلمع بالذهب الخالص تحت وهج الشمس، ففي العراق القباب معالم مزارات مقدسة،غطيت أغلبها بطابوق الكاشي المزجج بلونه التركواز، أو مزينا ًبزخارفه النباتية على الآجر(الكربلائي)-الكاشي المرصوف- أوغطيت بطبقة من الطابوق الذهب(الذهب وليس المذهب)!.. تخيلوا روعة ذلك،تحت وهج الشمس العراقية الساطعة! استعمل العرب القباب ،لأول مرة،في بناء (قبة الصخرة)بالقدس! وكانت القبة موجودة في عمارة المسيحيين العرب في سوريا وفلسطين قبل القرن السابع الميلادي الذي بدأ فيه ازدهار(العمارة العربية). بنيت جدران قبة الصخرة من الصخورالصلدة، وجعلت الإيوانات(الأواوين) وفتحات النوافذ على شكل(أطواق)- نصف دائرية-وضعت كتل ضخمة من الأخشاب القوية في محلات تفرع الأطواق لتزيد من قوتها وشدة مقاومتها،أما الأعمدة الرخامية المدورة فكانت من مخلفات المعابد القديمة. وظل الطرازالمسجدي بفتنة مدورته،هو السائد في العمارة العربية حتى نهاية القرن التاسع، ومنذ القرن التاسع حتى نهاية القرن الثاني عشر كانت المساجد التي أنشئت قليلة جدا ً.
 
سئل مرة النحات العراقي خالد الرحال عن كيفية استيحاء فكرة تصميم "نصب الجندي المجهول" فأجاب :حين قلبت "الطاسة"(*)-أمامي استوحيت فكرة الترس المقلوب.. في حين ثمة الفكرة الأزلية التي هي أن الأرض مدورة،ومدورتها المحيرة ودورانها حول الشمس هي سببت إعدام غاليلو:الأرض، نعم إنها تدور!! وكان القبر حفرة دائرية في الأصل ثم صار مستطيلا ً،لكن "حدبة" القبرهي مثابة "البطن" المكورللمرأة الحامل، وكأن القبرناتج فلسفة(الأرض أمنا)التي تحمي طفلها الإنساني البشري، لتحنو عليه في رحلته نحو الأبدية أورحيله إلى العالم السفلي! ومنذ أول قبرمكور يشيده إبن آدم لشقيقه المغدور،في قصة قابيل وهابيل،لانزال نبني قبابا ً من حزن وأسى كما نبني قباب المزارات، كأنها منحيات تلال من الرمال اللامنتهية والهضبات. استعمل"الإسطوات" العراقيون "العقادة"في سقوف الطابوق المنحنية للداخل،كأنها طاقيات حامية أوكنوع من الشعوربالأمان الذي يمنحه السقف الداخلي للغرفة،أوالبيت،أوالمسجد الجامع. فاتسعت المنحنيات لتصبح قبابا ً من الخارج وحانيات معقودة من الداخل،كمثل البطن،وغطاء الرأس، تصد من الخارج المؤثرات والأخطار في الفضاء المفتوح، وهذه ميزة الأرض ككرة مدورة تحمي سكانها وكائناتها. ومادام البشر يستشعرون مدورة قطرة الماء والدمعة وقطرة الدم منذ بدء الخليقة وبدء الوعي ،فهم أشادوا دورهم الأولى منذ سومر على شكل أكواخ مقوسة من القصب والبردي، إلى حاضرة أكواخ الأهوارالمعروفة في جنوب العراق،التي استوحى منها المعماريون منحنيات شبابيك بنايات عدة ومداخلها المقوسة،وصارت قبل ذلك بوابة عشتار البابلية وأبواب قصورآشور بانيبال في نينوى مقوسة تأخذ من الأرض صورة منحناها،وهي فلسفيا ًمدورة تمتد- نؤكد- لتشمل الحياة والموت،نبضات القلب،ودورة الزمن في الليل والنهاروالكواكب السيارة والنجوم وحدقات العيون التي نرى فيها، وعيون الماء(نبع) الرواء،وحرف(العين)في الكتابةالعربية! رجوعا ًإلى (النطفة) المدورة القدرية الأولى في النماء والديمومة والخصب. فهل يغيب عمن اخترع العجلة والكتابة ورسم الحروف ودوّن القوانين وعرف الفلك،أن يبتكر قبة(أو:كلـّة)تحمي عشتارمن شمس أوروك ومن نارغيرتها من فتوة كلكامش وطيبة تموز، و سحرأنكيدو؟!
 
في فتنة الدائرة ،اشتغال على عنصرين أساسيين:الطين،كونه خليط قطرات الماء وذرات التراب منذ أزل البشرية،وهو العنصرالمادي(الموضوعي) الذي يتحول من ليونة عجينته حتى صلابة فخاره حالما يتعرض لحرارة الشمس في المجتمع البدائي المشاعي الأول،حيث الأواني الأولى محض مدورات من صلصال،أو حجر محفور أو منحوت! وقطرات الماء مدورات، كذلك ذرات التراب، ومن مزيجهما تشكل الإناء الفخاريبفعل حرارة مدورة الشمس! ومن الحجر صاغ الفنان الرافدي (الإناء النذري )(**)الجميل، كنص إبداعي مرئي ولا أحلى! لامناص ،الأشكال الطبيعية كلها في الاستشهادات، منحنية! أو تستمد من الدائرة فتنة شكلها!
من ثم صار الفرن وسيلة،وصار التزجيج بدرجات الحرارة العالية المعروفة للمشتغلين في هذا الحقل، و كما هو معلوم في صناعةالخزف(السيراميك)! غواية الدائرة،تقود إلى فتنتها، ليتحول الإناء، من وظيفته الاستعمالية الاستهلاكية، التقليدية، إلى عمل فني، ينافس اللوحة المعلقة، كنص مرئي قابل للتعليق،أو قابل لوضع الوقوف مثل أية منحوتة مستندا ً على قواعد من خشب مختار بعناية لونا ً وتراكيب!!
صحيح أنكم لن تتخيلوا الأرض مسطحة، تقف شاقوليا ً على أعمدة جاذبيتها الكونية السرية، هكذا سنقول "انقلبت الأرض"!!..وذلك ما لانتمناه!! لكن للجمال وفتنة المدورة غوايتها، وهكذا استقرت ثمة النماذج المعروضة، واقفة على قواعدها، كأقراص زهرة"عباد الشمس" ترى من الوجهين، مطلة بألوانها المزججة،وحروفياتها الظاهرة مرات،والمستترة داخل بنية سطوحها أو كجزء من تضاريسها، متناغمة مع الشقوق والحنيات والقطوع والتعاريج ، بما تمليه متطلبات الشكل الفني وتقنيته،إذ ،هنا، اشتغال يدوي ،خارج حركة " الويل"، إن اليد لتكتشف هنا، وللمقلة أن تستمتع! وبمنظور الفن والإبداع،هنا استثمار لطاقات النحت وآفاق المخيلة،ومزاوجة مع جماليات الحرف العربي كبنية تشكيلية، لتخرج المخزوفات من هذا المزيج المعرفي- التقني ،منغمسة بفتنة الدائرة وشفيف بريقها، وهي بمجموعها من:" وحي طين سومر!" وهكذا تستحق أن تمنح نفسها الأسماء:

 
"ألف ليلة وليلة"
الكون الأزرق،
ليل بغدادي،
انشودة المطر
 
لكن الفصول لا تنتهي عند "أنشودة المطر" بل تصاعد إلى "ليلة الصقيع" و"عاصفة الشتاء"، ففي حياتنا لابد أن "نتجاوز الغضب بالحب" كي نتمكن من الانحدارإلى "المضيق البحري الأخضر" لتلمس "ضوء الشمال" في "ليلة السماء" وننغمر ب"ربيع المطر"! إنه رومانس،برغم صلادة مادة الخزف، ذلك أن المخيلة تذهب بالمبدع إلى"أرض الأولياء" بفعل الحنين لطين سومر، إلى العراق، الذي كان يدعى:"جمجمة الرجال وكنز العرب!!" تميل التقنية في غالب الأشكال إلى اسلوبين؛ محاولة خروج الدائرة ككوكب مستقل عن حبس ذلك المربع الوهمي، وتستقل بطين سومر،كون الدائرة تمثل مدورة الحب والحنين والحنان، وثانيا ً تلك التعرجات التي قد تتشكل بفعل موجات الغضب، أوقد تكون بعض التعميد (التغسيل)،أي طقوس المياه المقدسة، ففي وادي الرافدين تبدأ النذور بطقس التغسيل والتعميد،بل أن مدورة الخلق لتعتمد على فلسفة "الميلاد المائي" في الديانات البابلية،وفي الميثولوجيا ثمة"قصة الخلق البابلية" ومردوخ و"الطوفان " و"اتونابشتم- نوح"والفلك القديم،وكلكامش ورحلته بحثا ً عن الخلود. فتنة الدائرة غير منقطعة عن سياقها الفني والحضاري كنسق جمالي له علاقة وشيجة بأرض وادي الرافدين وحضارات سومر وأكد وبابل وآشور، كما أن لها سياقها وفتنة الفنون الإسلامية في العصر العباسي، و"مدرسة بغداد للتصوير" التي أوجدها يحيى بن محمود الواسطي في ق.13م وأكدتها رسومه لمقامات الحريري .. تقنيا تتأسس مرئبات وسام سعدي الحداد الخزفية على توليد النسق الجمالي من الأصول البيئية والكونية والبيولوجية، فهي تعتمد على نمطين أو أكثرمن الاستعارات :
 
الأولى:استعارات كونية - تاريخية- وجودية..تستخلص شكل الدائرة وفتنتها من المتون الحية..بدءا ً من الكواكب السيارة والمجرات وحركتها ومدوراتها الساحرة الجميلة ذا ت الهالات النورانية التي تغنى بها الشعراء بخاصة،واتخذها السومريون وعرب ما قبل الاسلام صنو آلهتهم ورديفها كالزهرة نجمة لعشتار وعزة، وارتبطت بالنفس والتخاطر، والحوادث وفلسفة الميلاد المائي، كما قال المنجمون والفلكيون والفلاسفة،وإذا فهي منبع لاستخدامات الفنانين كدوائر الشمس والقمر والهلال وهالاتها الضوئية والنجوم وبريقها الأخاذ، وانتهاء بمدورة الحياة والموت و"الحياة الأخرى" (جنان الخلد)- كثواب للمؤمنين المتقين- في بعض العبادات والأديان السماوية. . وتستلف تجربة وسام استعارتها الثانية ، وهي استعارة تقنية، في"الفورم" بخاصة، من شكل التضاريس، أي ملمس السطوح، بتأكيدها على العلاقة الأزلية بين الغائر والبارز، والعمق والسطح، الخارج والداخل، الغلاف والغور.. وهي استعارة تأخذ مادتها من صلب الطبيعة نفسها كدال مادي، مع مافي الطبيعة من إحالات وتأويلات، كما تنحو بها نحوالجانب الروحي باتجاه المعنى الصوفي :(الغائب والحاضر)(الظاهر والمستور) (الخطاب والحجاب). من ثم فإن الدائرة الخزفية لوسام حداد تغوي المتلقي لتفرض محيطها الدائري في الرؤية وفضائها الحركي، كي نتلمس فتنتها من الجهات كلها، فلابد له من الدوران حولها، فالنصوص المرئية لوسام غالبا ًما تكون واقفة على قاعدة مربعة أو مستطيلة، لكنها تاخذ وظيفة النحت المجسم حين تتقبل المشاهدة من جهاتها كلها ولمسها وتفحصها أيضا ً، وهذه اللذة، تعطي للمخـزوفة صفة الإغواء الأنثوي الرقيق وتستعير مدى مفهوم"القوارير"المترفة في أناقتها وحالاتها، فتخرج جوهرها من صلابة الصلصال لرقة مأمولة ومغرية وقابلة للمس والمداعبة!
 
وهذا ما يتبدى عنها بالتبعية في نوع الحركية وديناميتها،فهي ليست حجرا ً ثقيلا ً أصما ًملقى على الأرض باهمال، لكنها (أيقونة ) مدورة،ترى إلى الناظر كما يرى إليها من الجهات الخمس! وحتى حين تتحول إلى جدارية، فهي تأخذ وظيفة الجداريات ،أو مرايا الزينة، كما لو كانت بعض موتيفات شارع الموكب في بابل او بوابة عشتار..أو زخرفيات جدران القصور الآشورية ومتوالياتها الغائرة البارزة في آن..بخاصة حين تعيد للذاكرة ألوان التزجيج هذه إلى ذلك المزاج البابلي العتيق وتلك الفتنة التي أبدعها الأجداد قبل آلاف السنين من مولد السيد المسيح.. .وهكذا تخرج الدائرة الخزفية هنا كنص مرئي من صلب الوظيفة التقليدية الاستعمالية لمحدودية الإناء(الصحن والماعون وآنية الطعام) إلى فضاء إبداعي مختلف تنافس فيه وظيفة التصوير(اللوحة)المعلقة، أوالنحت(التمثال)المجسم او البارز (الريليف)،هذا الحراك جعل جوهر الطين المفخور يعيد ترتيب أصول وظيفته المادية في الطبيعة فيحولها إلى فتنة حضارية ،أي من مادة خام هي تراب الآرض في عناصره وخصاله، إلى نسق جمالي حديث ،بعد أن تمتزج الأتربة ، مع العنصر الثاني في الطبيعة وهو الماء، وتغدو في تفاعلها معالنار،العنصر الثالث في الطبيعة- لتكون (الشيء) الآخر،ولزيادة التأكيد على هذه الوظيفة(الشيئية) الوجودية الحضارية، المرادفة للحياة وفاعلياتها، لجأ الفنان إلى الثلم والقطع والتحزيز والثثقيب،والطبقية الجيولوجية، أي لجأ إلى التعرية والتراكم والتدخل اليدوي،ليكسر رتابة الإنضباط الهندسي للدائرة ، ويحول تلك الفراغات إلى مكمل مرئي يزيد في الإيقاع، وينوع في المدى البصري،ويولد التأويل..
 
 
كأن يعتبر المتلقي الثقبَ في الدائرة مثابة "ثقب الأوزون" في الغلاف الجوي ،كاستعارة مجازية.. أو يحيله إلى أي ثقب بصري ، كالعالم السفلي والقبر، والنفق النفسي المظلم ، و..الكهوف والمغارات ، والغور النفسي، وعناصر الجسد بما فيه من ثقوب- كالرحم - وثنيات وبروزات وسطوح ملساء وتعرجات وتجاعيد في المراحل الزمنية المختلفة لعمر الإنسان من الطفولة إلى الشيخوخة، فالتأويل مفتوح..حتى خارج إطار "الفتنة" كتوصيف جمالي، لذا أميل إلى تحليل جوهر العمل،بغض النظر عن مسماه وعنوانه في دليل العرض، ذلك يتيح لمخيلة المتلقي رحابة أكبر من قيد المسمى الذي قد يفرضه الفنان على عمله وعلى المتلقي في آن..عدا الإحالات التأويلية التي تخلقها إضافات الحروفية والكتابات..ككلمة (العراق) أو كالبسملة، واسم الجلالة (الله)، فتلك المسميات والكتابات تستهدف العاطفة الاستهلاكية أو النفسية أو ربما الشعائرية أو الطقسية، لدى المتلقي، لكني أنظر إلى تركيبها على سطح النص المرئي كنوع من التناص المزدوح..أي وجود نص مكتوب فوق نص تقني، وهذا المزدوج يعود إلى انجذاب الفنانين العرب المسلميين إلى تراثهم في الكتابات الآجرية أو على جدران المساجد كجزء من خصائص البنية المعمارية لذلك الطراز من العمارة ومكملاتها الزخرفية..يمكن رفعها ووضع اية نقوش سواها، أو حتى ترك السطوح تنكتب ضمن سياقها التضاريسي، لتخلق خواصها الجمالية من دون الاستعانة بنص مقروء، أو مرموز، وهذا التوجه في الاشتغال يشكل "الاستعارة الثالثة" وهي استعارة تراوح بين مفهومين :استعارة الضرورة، حين توظف ضمن صيغة توجهات فاعلية النص المرئي كخطاب (إعلامي) في أيما توجه كان:غزلي وجداني، أو ديني - صوفي، او سياسي- تاريخي، أو شخصي - توثيقي(كأن يطلب أحدهم من الفنان أن يكتب أسم حبيبته أو زوجته أو الشخص الذي ستقدم له المخزوفة هدية)كجزء من عرف اجتماعي أو تقاليد...،كما اعتادت النصوص المرئية (الحروفية) أن تتماهى مع توجهات النصوص الخطية، تحت السلطة التاريخية للخط العربي في المجتمعات الإسلامية، أو تحت تأثير متطلبات السوق في المحيط الذي يعتبر وضع ذلك العمل في الييت أو المكتب أو المدرسة أو المسجد ،لاكفتنة جمالية، بل كاستجابة ذوقية لطقوس التدين والتبريك ،دون الإخلال بمقاربات "التحريم" ، أو كتعويذات لطرد الشر، أو بطلب الرزق، بحسب النص المكتوب فوق الطين المفخور كنص أول!.
 
وهذا التناص،أوالاستعارة الثالثة، يمكن أن نطلق عليها "الفضلة" في تأويلها الآخر، كما هي الفضلة في البلاغة العربية القولية(الشعر والخطابة تحديدا ً) إذا جردناها من سياقها القصدي ، وتعاملنا مع النص المرئي كجوهر جمالي محض.. كونها تستلف جوهرها التقني من مدونة الأرض والحياة ،الحروف والكتابة، والتعاريج والمدات والقطوع والحزوز والانسيابات والأبنية ، أي أن وسام حداد يؤكد ويزيح في الآن نفسه، كأنه بين يقينين..وهذه المزدوجة بين التأكيد والإزاحة، تتماهي وصلب الاستعارة الوجودية - الفكرية، وتحولات النسق،التي يدلل على وثوقيتها بالكلمات المنصوصة والآيات القرانية وسواها مرات، كأنها تعاويذ أو تمائم مكبرة، لا تعلق على الصدر، لكنها قد تعلق على الجدرن أو تستقيم واقفة وسط المكتب أو الصالة، أو في أيما فضاء محسوب منسوب...من ثم فالفنان يخرج الأتربة من لونيتها المعروفة- أي من جيولوجيتها وتاريخانيتها وصفاتها النوعية الأزلية وجيناتها- إلى توليدات لونية وتقنية جديدة ومغايرة،بعد تحولاتها من طين محض إلى قطع فنية مزججة، بواسطة الوسائط التقنية:حرارة الفرن، والصباغات، والمواد الكيمياوية، مع ما يصاحب العمل من حالة انتظاروترقب قلق لنتائجه النهائية، بعد الخروج من جحيمه الناري إلى فضاء الانعتاق والحرية والفرجة والعرض والتسويق،لتستقيم مرئيات نصية ، أو نصوص مرئية تتباهى بعناوين فنتازية أو تكتفي بذاتها ! وهذا هو التحول من التلقائية إلى الصناعة، في انتاج النسق .. وهكذا تتداخل استعارات النصوص الخزفية المرئية لوسام الحداد في سياق اشتغالها على فتنة الدائرة، كي يمسك النص المرئي بكلا التوجهات الثلاثة، وبذلك قد يتحول إلى" مدونة" بصرية كتابية أو حروفية محض، في حالة المبالغة بهذا النمط من التوجه، وهنا تكمن خطورة الإنزلاق نحو الانغماس بالوظيفة الاجتماعية والتجارية كبعد وحيد أوحد، في خطاب النص المرئي، على حساب الوظيفة الفنية - الجمالية، وتكون التقنية و(الفورم) محض وسيلة لتوصيل الخطاب المقصود، أكثر منها وسيلة لتاكيد النسق الجمالي. وهو سير قلق على قنطرة رفيعة لاتخلومن خطر وتستوجب الحذر...
 
هنا تعالق مع ذلك التراث كله، شكلته مدونات خزفية كنصوص مرئية تحمل عناوينها وشعريتها ..فلندع المقلة،إذا ً،ترى إلى الأشكال متكئة على العناوين الأدبية كسند إيضاحي ومعرفي معاضد، أو لتجول حرة طليقة بلا قيد ،ذلك متروك لمخيال الرائي إلى هذه (الدوائر)واشتغالاتها،نقوشها وكتاباتها وزخارفها، على سطوح تضاريسها ، وعلى وفق ما تدركه ثقافته البصرية والإبستمولوجية، وما تستجيب له ذائقته الجمالية وحواسه وحدوسه لحظة التلقي.. هذه المدونات تأتيكم من تلك المتون التاريخية-الاجتماعية-التراثية الوجودية،كلها،إذا ً لكن بفتنة الدائرة وبريقها المخزّف!...................مرحبا ً!
........
 
(*)- وهي إناء دائري مقعريستعمل للأكل وشرب السوائل- (**)إناء الوركاء أو "الإناء النذري" هو أقدم إناء ديني من حجرمنحوت،تم اكتشافه في العراق ،يعود تاريخه إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وهو الأكثر شهرة ،مزين بنقوش ناتئة بين الشرائط والأفاريز،التي يعلو بعضها فوق بعض من القمة إلى الأسفل، اتسم بتجريد ديني ارتبط بعبادة الإلهة(إنانا-عشتار) التي مُثلت هنا بشعارها(حزمتي القصب)، حيث وضعتا جنبا ً إلى جنب، وهما ترمزان إلى مدخل المعبد، وبلغ ارتفاع الإناء النذري الرخامي الكبيرهذا 105سم ، ونرى فيه إلى أربعة صفوف من الأفاريز يفصل بينها شريط ناتيء ضيق، وهناك طابورطويل لشخوص يقدمون القرابين من حيوانات ونذورأخرى يتقدم الموكب رجل يرتدي لباسا ً مصنوعا ً من نسيج شفاف مشبك، يَصحبُه مساعدان أحدهما يحمل سلة فيها فاكهة والآخر يحمل حزمة ملابس كبيرة، وعلى الإفريز الثاني عدد كبير من الخدم العراة يسيرون بموكب، وهم يحملون السلال والأباريق والجرارالنذرية التي تحوي الفاكهة والمشروبات، وتحت هذا الموكب تسيرالأغنام المنذورة، وبعدها منظر يرمز إلى منبع الحياة كلها، وهوصف من سنابل الشعير وفسائل النخيل،رتبت كأنها فوق صفحة ماء، وتستقبل هذا الموكب امرأة برداء لها لبدة كثيفة من الشعرولباس مدبب ذي قرون تقف بين رابيتين من حزم دائرية من القصب المشدود هي شعارالإلهة السومرية (إنانا)، أوبديلتها، وهي كاهنة عظمى تستقبل عريسها في رأس السنة للإحتفال (بالزواج المقدس)، وهذا العريس هو الملك نصف الأسطوري تموز(دموزي).وعشتار هو الاسم البابلي لإينانا ،كما تظهر عشتار في تماثيل عدة تضع كفيها تحت ثدييها الكبيرين وتتميز بعجيزة مدورة، وهذه المدورات تحيل إلى الإخصاب، ويمثلها في السماء الكوكب"الزهرة" كإلهة للحب والنماء. كما تتميز التماثيل السومرية بالعيون المدورة الواسعة كسمة من سمات الفن السومري .